الملاحظات النقدية الأولى وأثرها فـــى نشأة المصطلحات البلاغية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ البلاغة والنقد المساعد في الکلية - رحمه الله

المستخلص

الأدب والنقد والبلاغة کلمات متآخية بينها قدر کبير من التلازم والارتباط ، ما أن تذکر إحداها حتى تقفز الأخريان إلى الذهن ، إذ الأدب فى أدق معانيه وأبسطها هو الجيد من الفن القولى الذى يصل إلى أعماق النفس ويؤثر فيها ، وهو : الکلام البليغ الذى أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المنافقين به ليبلغ منهم ويؤثر فيهم فى قوله تعالى : (( أولئک الذين يعلم الله ما فى قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم فى أنفسهم قولا بليغاً)) (سورة النساء 63) وقد وردت کلمة (أدب) بمعنى ( علم المنطق الفصيح المؤثر فى النفس) فى قول الصديق أبى بکر للنبى صلى الله عليه وسلم عندما أعجب من بلاغته: ((لقد طفت العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت بالذى هو أفصح منک ، فمن أدبک ؟)) فيجيبه صلى الله عليه وسلم بقوله: (( أدبنى ربى فأحسن تأديبى)). فسؤال الصديق بقوله: (( من أدبک ؟)) يعنى من علمک هذا الکلام البليغ المؤثر فى النفس الذى لم أسمع مثله من عربى قط ،، .
حقاً لقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، إذ کمله برجاحة العقل وصفاء الحس، وقوة الطبع وتمکن اللسان، ومحض السليقة ؛ ليکون مبلغاً لکلمته ولساناً لوحيه.
إذا ، فبلاغة القول والأدب کلمتان متلازمتان لا تفترقان، فحيثما وجدت البلاغة فى القول کان الأدب، وحيث انتفت البلاغة عن القول زال عنه اسم الأدب ، وإلا فلماذا لا نطلق على القصائد التى تنظم لتسجيل القواعد اللغوية، والحقائق العلمية کألفية ابن مالک و""عقود الجمان فى علمى المعانى والبيان للسيوطى وأمثالهما اسم الأدب؟"". ثم لماذا نطلق على معلقة امرئ القيس ومعلقة زهير وأشباههما اسم الأدب؟ .
هذا من ناحية صلة البلاغة القولية بالأدب ، أما من ناحية صلة البلاغة العلمية بالأدب والنقد فإن الأدب هو الميدان الرحب الذى يعمل فيه کل من النقد والبلاغة، فإذا کان النقد هو تفسير الأدب وتحليله فإن البلاغة تعتبر وسيله من وسائله، بل هى أهم تلک الوسائل. إذ مهمة الناقد تجاه تفسير العمل الأدبى وتحليله تنصرف أول ما تنصرف إلى بيان خصوصيات التعبير وتميز الأداء ، الأمر الذى يعد مناط التفاوت بين أديب وآخر، فينظر الناقد أولاً إلى الألفاظ التى اختارها الأديب ليصوغ منها عمله ليرى هل حققت تلک الألفاظ الغرض الذى أراده الشاعر، أو الکاتب فوضحت فکرته ونقلت مشاعره وأحاسيسه إلى قارئه أو سامعه؟. أو أنها عجزت عن ذلک؟ ، ويسجل السبب فى کلتا الحالتين ، ثم يبين أيضاً هل استخدمت الألفاظ فى معانيها التى وضعت لها فى أصل اللغة ، أو استخدمها فى معان أخرى بينها وبين المعانى الحقيقية علاقة ، أو لا علاقة بينهما:
ثم ينتقل إلى الجملة – والجملة هى وحدة البناء فى العمل الأدبى إذ هى الخطوة الأولى التى يخطوها الأديب للخروج بمفردات اللغة من دائراتها المعجمية ليعطينا طعومات متعددة ، ومذاقات مختلفة بحسب نوع العلاقة التى أوجدها بين أجزائها.
والجملة فى لغة العرب لها نظام خاص ، ونسق معين اتفق عليه أهلها، وارتضوه فيما بينهم، يسبق المسند إليه المسند فى الجملة الإسمية ، ثم تأتى مکملاتها . ويتقدم المسند على المسند إليه فى الجملة الفعلية، ثم تأتى متعلقات الفعل. ينظر الناقد ليرى هل التزم الأديب بهذا الترتيب فى نظمه للجملة، فوضع کل عنصر فى موضعه منها ؟ . أو أنه خالف ، فقدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم؟ ، ثم ينظر کذلک ليرى هل نکر فى موضع التعريف ، أو عرف فى موضع التنکير؟ ، أو ذکر فى موطن الحذف أو حذف فى موطن الذکر ، أو أضمر فى مکان الإظهار أو أظهر فى مکان الإضمار.
فإذا کان قد فعل شيئاً من ذلک فعلى الناقد أن يذکر القيمة الفنية التى يرمى إليها الأديب، والغرض البلاغى الذى يقصده ، ثم ينتقل بعد ذلک إلى الفقرة من النثر أو المقطع من الشعر فيوضح العلاقات والروابط التى أوجدها الأديب بين الجمل والأدوات التى استخدمها ثم يبرز القيمة البلاغية لکل أداة من تلک الأدوات ، ثم يبين مدى انسجام تلک الجمل وتناسقها ، أو تنافرها واختلافها.
وبعد أن ينتهى الناقد من دراسة تلک الجزيئات وتوجيه تصرفات الأديب فى تشکيل بنيته ، عليه أن يحدد ملامح أسلوبه وميزات أدائه وخصائصه الفنية ؛ ليقول لنا هل هو ممن يفضلون الإطناب بتکرار الجمل وترادفها وتأکيدها؟. أو ممن يميلون إلى الإيجاز بوضع المعانى الکثيرة فى ألفاظ قليلة؟ ،، أو ممن يسوون بين المعانى والألفاظ؟.
وقبل کل ذلک عليه أن يبين هل جاء کلامه مطابقاً لأحوال المخاطبين وملائماً للغرض الذى يرمى إليه؟.
فالبلاغة إذاً، هى الأداة التى يستطيع الناقد أن يفرق بها بين الجيد والردئ من القول. کما أنها تعين أيضاً على إنشاء الجيد من الشعر والنثر، وقد کان القدماء يطلقون على علوم البلاغة إسم ( نقد الشعر) کما فعل قدامة بن جعفر ، أو (قواعد الشعر) کما فعل أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب. أو ( صناعة الشعر والنثر) کما فعل أبو هلال العسکرى.

الكلمات الرئيسية