الأبعاد الإنسانية في الفقه الحنفي دراسة تطبيقية لمسائل فقهية

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

مدرس الفقه بقسم الشريعة بکلية الدراسات الإسلامية والعربية بنين القاهرة

المستخلص

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد خلق الله ـ تعالى ـ هذا الکون بقدرته وحکمته ونظر إليه نظرة الحب والرحمة والجمال ؛ فکمَّله وجَمَّله بلطيف منِّه وکرمه ، وجعل فيه من الکائنات المختلفة ما يدل على عظمته وقدرته ، ثم شَرَّف الإنسان وکرَّمه على جميع ما خلق ، وأثبت تکريمه له في کتابه العزيز بآيات خالدات تُتلى إلى يوم الدين، فقال ـ تعالى ـ : " وَلَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى کَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ". ([1])
 وسخر الله الکون کله لهذا الإنسان ؛ نظرا لحبه له ورحمته به وتفضيله على بقية خلقه ، وحتى يساعده على المحافظة على استقامة حرکة الحياة فيه ؛ أرسل إليه رسله الکرام ـعليهم السلام ـ لتبليغه دينه وبيان أحکامه الشرعية .
ومن هنا جاءت أهمية الفقه الإسلامى الذى تکفَّل علماؤه المخلصون بالاجتهاد العلمى الصادق المُنَزَّه عن الأغراض والأهواء ؛ ليساعدوا عباد الله على الوصول إلى أعلى درجات الرقى والحب في العلاقة الإيمانية بينهم وبين رب العالمين ـ سبحانه ـ، وبين بعضهم وبعض ، وذلک بالتعرف على مقصوده ـ تعالى ـ وتقريبه إليهم بما ينظم لهم حياتهم ومعاشهم لأمرى الدنيا والآخرة دون حرج أو مشقة عليهم .
أهمية الموضوع :
الأبعاد الإنسانية من الأمور المهمة التى ينبغى على المشتغل بالفقه أن يکون على معرفة بها ؛ ليبينها للناس ؛ حتى تظهر عظمة التشريع الإسلامى ورقيِّه ومدى مراعاته لظروف الناس وأحوالهم واهتمامه بما يحافظ على کرامتهم وإنسانيتهم دون المساس بها أو الحط من شأنها ، وفى هذا رد واضح وصريح على الذين يتهمون الشريعة بالجمود والتخلف وعدم مرونتها وعدم نظرتها للجوانب والأبعاد الإنسانية لدى العباد .
ومن أهم ما يميز الفقه الإسلامى : اعتناؤه بالأبعاد الإنسانية التى تؤدى إلى إسعاد البشرية ورفع الضيق والمشقة عنهم بما يتلاءم مع الشرع الشريف وسعة أفقه کما اعتنى بها خالق البرية - سبحانه وتعالى-، وکما اعتنى بها سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذى يظهر جليًّا في کل أقواله وأفعاله وأحواله .
وکان الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - ، کغيره من الفقهاء مِن أبرز مَنْ فطن إلى هذه الأمور واعتنى بها ، وسعى للتعمق في النصوص الشرعية بالعقل والقلب معًا ، مستعينًا فى ذلک بما وهبه الله ـ تعالى - من مقومات وملکات علمية وعقلية وروحية ؛ فاهتم بالأبعاد الإنسانية اهتمامًا کبيرًا في نظرته الفقهية ؛ فکان إنسانيَّ النزعة ، لا يقف عند مجرد ظواهر النصوص، بل کان يُمَحِّص مقاصد النصوص ، ويتدبر في النوازل والمستجدات ، ويُقدِّر بنظرة علمية مستقبلية ما يَجد ويُستحدث من مسائل ، ويقنن فيها الرأي العلمي بالأدوات العلمية المنضبطة ؛ ليضع لها ما يناسبها من الحلول الفقهية المستنبطة من الأدلة الشرعية بنظرة إنسانية عميقة تتميز بفهم للأحوال والظروف الواقعية ، وبالارتباط والتکامل الذى جعله الله فى خلقه بل وفى کونه کله وهذا يهدف إلى الارتقاء بقيمة الإنسان دون النظر إلى کونه ذکرًا أو أنثى ، حرًّا أو عبدًا ، صغيرًا أو کبيرًا ، مما يؤکد أن ديننا الحنيف هو دين القيم الإنسانية والأخلاق الراقية الرفيعة.
ومن هنا أردتُ ـ بعون الله وتوفيقه - أن أسلط الضوء في بحثي هذا على بعض المسائل الفقهية - دون الکل ؛ للصعوبة الشديدة في حصر وتتبع ذلک - التى تناولها فقه السادة الحنفية ـ رحمهم الله ـ وذلک بشئ من الترکيز على الأبعاد الإنسانية التى راعاها الإمام أبو حنيفة وتلامذته ـ رحمهم الله ـ حال دراستهم لهذه المسائل ( [2] )، ومدى دقة وعمق رؤيتهم لها ، ومدى تقديرهم لأحوال العباد ، ومراعاة ظروفهم وأحوالهم وإنسانيتهم ، ومراعاتهم لتغيرات الواقع حسب اختلاف المجتمعات بأعرافها وتقاليدها ، وحسب اختلاف البشر في قدراتهم العقلية ، والنفسية ، والجسمانية ، والروحية ، وحسب اختلاف الأزمنة والأمکنة ، وتقدير الأمور بتقدير زمانها وما تفرضه على معاصريها من مستجدات ، واحتوائهم لکل ذلک في إطار الشرع الشريف .



(1) سورة الإسراء ، الآية 70


( [2] ) ليس معنى هذا : أن المذهب الحنفى هو المتفرد بالترکيز على الأبعاد الإنسانية فى الأحکام الشرعية فقط ، بل إن فقهاء المذاهب الأخرى راعوا هذه الأبعاد الإنسانية واهتموا بإبرازها فى أثناء دراستهم للأحکام الشرعية والفروع الفقهية ، والمتصفح لهذه المذاهب سيقف على دقائق خفية وأبعاد إنسانية عالية فطن إليها الفقهاء وأرشدوا الناس إليها .